في وطنٍ غني بثرواته، عريقٌ بتاريخه، باذخٌ بأمجاده، تُطلّ الحقيقة من زاوية مُظلمة: فئةٌ واسعة من أبناء هذا الشعب، أولئك الذين يحملون على أكتافهم مؤسسات الدولة، يعيشون منذ عقدين من الزمان على رواتب تآكلت، وأجور ذبلت، ودخولٍ لم تُراجع، كأنهم خارج حسابات الدولة، وكأن جوعهم لا يُدوّن في سجلات الوزارات.
عشرون عامًا مرت، والمشهد يتكرر: غلاءٌ يطحن العظام، أسعارٌ تقفز كل صباح، ودخلٌ ثابت لا يتحرك، كأنه شجرة عاقر في موسم الحصاد. في الفيديو الذي وثّق هذه الصرخة الشعبية الصادقة، تكلّم أحد المواطنين بلسان المظلومين: “رواتبنا بقيت كما هي منذ عشرين سنة، دون تعديل، دون إنصاف، دون نظرة رحيمة”. كلماته لم تكن مجرد شكوى، بل كانت مرثية اقتصادية لأمة تعمل، ولا تكسب إلا مزيدًا من الهمّ.
كيف يمكن لراتب أن يظل كما هو، بينما كل شيء من حوله يتغير؟
الخبز لم يعد بخمسه، والدواء صار امتيازًا، والفاتورة الشهرية تحوّلت إلى كابوس يُهدد بقاء الأسرة. أما الراتب، ذلك الهيكل العظمي الذي كان يومًا ما كافيًا، فقد أصبح اليوم مجرّد رقم يمرّ في الحساب دون أن يُلامس الواقع.
إنه ظلمٌ ما بعده ظلم، أن يُترك الإنسان يواجه أعاصير الغلاء، بلا درع ولا دعم، كأنما الكرامة تُباع في الأسواق. أي عدالة هذه التي تجعل موظفًا في خدمة وطنه، يعجز عن توفير حاجات أسرته الأساسية؟ أية دولة تلك التي تسكت عشرين عامًا عن ملفٍ بهذه الخطورة؟ أليس من الإنصاف أن يُربط الدخل بالتضخم؟ أليس من الواجب أن يُعاد النظر في الأجور وفقًا لمؤشرات الواقع؟
هذه ليست رفاهية، بل ضرورة وجودية.
حين يُهمل ملف الرواتب لعشرين عامًا، فإننا لا نتحدث عن إهمال إداري، بل عن جريمة صامتة تُرتكب بحق الكرامة الإنسانية. إن صمت الحكومات المتعاقبة عن هذا الملف، لهو وصمة عار في جبين العدالة الاجتماعية، ورسالة بائسة بأن الفقير لا صوت له، وإن صرخ.
نعم، هي صرخة... لكنها ليست عبثية.
هي صرخة من قلب الجوع، من قلب الحيرة، من قلب المواطن الذي دفع من عمره سنوات في الخدمة، ولم يُقابل إلا بالتجاهل. فهل تُسمع؟ وهل هناك من ينصت؟ وهل آن أوان اليقظة من هذا التجاهل المزمن؟
خلاصة القول: نريد أن نعيش... لا أكثر. نريد أن نكافأ بما يُعيد للخبز احترامه، وللراتب هيبته، وللموظف كرامته. نريد أن تقول الدولة: "قد سمعناكم"، لا أن تبقى في عزلتها، تُعطي ولا تنظر إلى من أعطاها. فهل من بادرة؟ هل من رجاء؟ أم أن عشرين سنة أخرى تنتظر؟